«اللعبة» في اليمن لم تنتهِ
احتفل اليمنيون بالتوصل إلى وثيقة ختامية للحوار الوطني، لكن الانطباع السائد لا يزال مفعماً بالقلق والشكوك، كما لو أن الحوار والوثيقة ليسا سوى فصل آخر من أزمة مقيمة لم تتأثر بالجو الإيجابي الذي أشاعه هذا الحدث وعكسه الإعلام المحلي بدرجة أقل أو أكثر من الترحيب والارتياح. فمن جهة، أبدى المشاركون في الحوار كل الجدية اللازمة لإنجاح مهمتهم رغم التجاذبات التي اكتنفت أعمالهم، ومن جهة أخرى أثبت الحوار أنه كان ضرورياً لوضع تصوّرات لمستقبل البلد، ومع ذلك واكب كثيرون هذا الحوار من دون أن تكون لديهم أوهام بشأن الدور الذي ستلعبه مخرجاته في إخراج اليمن من أزمته المزمنة والمعقّدة.
لعل مردّ المشاعر «المتشائلة» إلى أن الواقع المعاش الآن ينقض ما تمّ من توافق على خريطة المستقبل، بل إن وقائعه لا تزال تتفاعل في اتجاه معاكس كما لو أن اللاعبين فيه لم يكونوا معنيين أصلاً بذاك الحوار. ولا تبالغ غالبية اليمنيين إذا توقّعت أن تكون النتيجة الأولى، الفورية والوشيكة للحوار، انفراجاً أمنياً وسياسياً. لكن ما بعد الوثيقة ظل كما قبلها: 1- التناحر في صعدة انتقل إلى عمران ليقترب من صنعاء، 2- التوتر في الجنوب لا يزال يقتل كل يوم تقريباً، 3- تنظيم «القاعدة» يواصل هجماته وكلما قيل أنه حوصر وانكفأ كلما أمعن في الانتشار والوصول إلى أي مكان، بما في ذلك ثكن الجيش ومنشآته في قلب العاصمة، 4- وحتى داخل الوسط السياسي الخارج من «حوار وطني» لا ملمح لـ «توافق»، بل لصراعات، خصوصاً بين أجنحة النظام السابق التي تترابص بعضاً لبعض.
لا شك أن خيار الأقاليم الستة، أي الدولة الاتحادية الفديرالية، يشكّل نقلة نوعية مهمة، بل خطوة جريئة تتجاوز «التابوات» وأنماط العيش والتفكير التي صنعها التاريخ. لا شك أيضاً أنه ينطوي على نقلة نفسية واجتماعية أهمّ وأعمق في اتجاه إعادة تكوين الوعي المجتمعي والوجدان الوطني، لكنه بالتأكيد خيار صعب ومحفوف بالمخاطر ومفتوح على عوارض شتى للأمراض التي عرفها اليمن طوال العقود الأربعة الأخيرة. حتى الآن كانت الدولة مركزية وتُدار من صنعاء، لكن مشكلتها أن تسعين في المئة من المناطق والأنحاء كانت دائماً مهملة ومتروكة لمصيرها، ولم تكن تشعر باهتمام الدولة بها تنمية ورعاية وتحسيناً للأحوال المعيشية، بل لا تشعر بوجودها إلا عندما يأتي جنودها لحسم إشكال أمني أو لتحرير رهائن أجانب احتجزتهم القبائل استدراجاً للفدية.
قبيل الانتفاضة الشعبية عام 2011، وفي أثنائها، حذّر الرئيس السابق من «سيناريو صومالي» لليمن، أو من تقسيمه إلى دويلات. لم يكن علي عبدالله صالح مخطئاً في استنتاجه، لكنه لم يكن مصيباً في اعتباره أنه هو ضمان وحدة البلاد وأمنها وتعايش مكوّناتها. المؤكد أن اليمن بلغ مرحلة تغيير خريطته بسبب سياساته، فهو حقق «الوحدة» وما لبث أن جعلها نقمة على أبناء الجنوب، واتّبع سياسة «فرّق تسد» بين القبائل، ووزّع المؤسسات على الأبناء والأنسباء، واستخدم بؤر الانهيار الأمني لتخويف بقية المناطق كما لتمويل الفساد... وأخيراً، بعد تنحّيه، عارض دولة الإقليمين (شمال وجنوب) دافعاً باتجاه الأقاليم، يقيناً منه بأن الدولة المركزية لن تتمكّن من الصمود أمام «الدويلات» التي ستنشأ. لكن انتقامه من إرغامه على التنحّي لن يقف عند هذا الحدّ، إذ يمكن أن يتحالف مع الشيطان، بدليل أنه أعاد تموضعه بحيث أثار الاشتباه بأن لبعض أنصاره علاقة مع «القاعدة»، وأكّد الارتياب في تقارب حلفاء له مع الحوثيين في حربهم على آل الأحمر، وليس مستبعداً أن يحصل تنسيق بين موالين له وبين انفصاليي خصمه علي سالم البيض في الجنوب.
غير أن خلط الأوراق هذا ليس مجرد حراك انعكاس للتحاقد القبلي بل تنفيذ لسياسة لم يعد سرّاً أن إيران وراءها. فلا «الحوثيون» يخفون ارتباطاتهم، ولا الانفصاليون يتلقون السلاح من مصدر مجهول، بل هناك خيط يربط بينهم، يتساوى في ذلك أن تكون إيران مؤيدة أو معارضة لـ «تقسيم» اليمن، فهذه ليست قضيتها، لكن انكشاف مزيد من الأوراق فيما بدأ البحث في رسم حدود الأقاليم، واحتمال امتداد النفوذ «الحوثي» إلى صنعاء، بالتزامن مع تفعيل العد العكسي لنهاية المرحلة الانتقالية، تضع أمام اليمنيين والقوى الإقليمية والدولية احتمال وجود خيارات أخرى لا علاقة لها بمخرجات الحوار الوطني، حتى لو تبنّتها الأمم المتحدة. فللأرض وللقبائل وللاعبين المحليين والخارجيين منطقهم، وأحياناً «لا منطقهم» الذي يتجاوز قدرات مجلس الأمن الدولي وصلاحياته.